لم يخلق الله سبحانه البشر متشابهين في كل شيء، لابد من إختلاف بينهم ولو كانت المقارنة بين التوأمين، وإن أشد ما تجد من إختلاف ما يكون بين الطباع والآراء والقناعات والعقول.
إذا كان الأمر كذلك وكان الإختلاف سنة كونية ماضية فلابد من التعامل بنوع من العقل والحكمة لاسيما عند الإختلاف.
ولا بأس أن تبذل شيئا من دنياك من أجل صلاح دنياك أو آخرتك أو صلاحهما معا، وهذا ما يسميه العلماء بالمداراة، كما ذكروا أيضا أن المداراة هي الملاينة والملاطفة، وفي تعريف آخر هي خفض الجناح للناس، ولين الكلام لهم، وترك الإغلاظ لهم في القول، والمداراة الدفع برفق.
والفرق المهم جدا بين المداراة المندوبة والمداهنة الممنوعة هو أن المداراة تكون ببذل الدنيا لصلاح الدنيا والدين أما المداهنة فهي بذل الدين لإصلاح الدنيا.
قال الحسن البصري: كانوا يقولون: المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه.
وعن وُهيب بن الورد قال: قلت لوهب بن مُنبِّه: إني أريد أن أعتزل الناس، فقال لي: لابد لك من الناس وللناس منك، لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتًا نطوقًا.
ويقول محمد بن الحنفية، قال: ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف، من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتى يجعل الله له فرجًا، أو قال: مخرجًا.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإنَّ قلوبنا لتلعنهم.
وعنه أيضًا رضي الله عنه قال لزوجته: إذا غضبت فَرَضيِّني، وإذا غضبت رضيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق.
وقال معاوية رضي الله عنه: لو أنَّ بيني وبين الناس شعرة ما إنقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدُّوها خلَّيتها، وإن خلَّوْا مددتها.
أغمض عيني عن صديقي كأنني *** لديه بما يأتي من القبح جاهل
وما بي جهل غير أن خليقتي *** تطيق احتمال الكره فيما أحاول
متى ما يربني مفصل فقطعته *** بقيت ومالي في نهوضي مفاصل
ولكن أداريه، وإن صح شدني *** فإن هو أعيا كان فيه تحامل
عن عروة بن الزبير، أنَّ عائشة أخبرته أنَّه إستأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة» فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول، فقال: «أي عائشة، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من تركه -أو ودعه- الناس إتقاء فحشه» رواه البخاري ومسلم.
قال المناوي رحمه الله: أي لأجل قبح فعله وقوله، أو لأجل إتقاء فحشه، أي: مجاوزة الحدِّ الشرعي قولًا أو فعلًا، وهذا أصل في ندب المدَاراة إذا ترتب عليها دفع ضرٍّ، أو جلب نفع، بخلاف المداهنة فحرامٌ مطلقًا، إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا، والمدَاراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا، بنحو رفقٍ بجاهلٍ في تعليم، وبفاسقٍ في نهيٍ عن منكر، وترك إغلاظ وتألُّف، ونحوها مطلوبةٌ محبوبةٌ إن ترتب عليها نفع، فإن لم يترتب عليها نفع، بأن لم يتقِ شرَّه بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهنَّ خلقن من ضِلع، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فإستوصوا بالنساء خيرًا» رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث الندب إلى المدَاراة لإستمالة النفوس، وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهنَّ، والصبر على عوجهنَّ، وأنَّ من رام تقويمهنَّ فاته الإنتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فكأنَّه قال: الإستمتاع بها لا يتمُّ إلا بالصبر عليها.
وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس اتقوا الله، وإنْ أُمِّر عليكم عبد حبشي مجدَّع، فإسمعوا له وأطيعوا، ما أقام لكم كتاب الله» الترمذي وقال حسن صحيح.
قال المباركفوري: فيه حثٌّ على المدَاراة، والموافقة مع الولاة، وعلى التحرز عما يثير الفتنة، ويؤدي إلى إختلاف الكلمة.
¤ مداراة الأعداء للحذر من شرهم:
قال الماوردي رحمه الله تعالى: إذا كان للإنسان عدو وقد إستحكمت شحناؤه، وإستوعرت سراؤه، وإستخشنت ضراؤه، فهو يتربص بدوائر السوء إنتهاز فرصة ويتجرع بمهانة العجز مرارة غصة، فإذا ظفر بنائبة ساعدها، وإذا شاهد نعمة عاندها، فالبعد عن هذا حذرا أسلم، والكف عنه متاركة أغنم، لأنه لا يسلم من عواقب شره، ولا يفلت من غوائل مكره إلا بالبعد عنه أو مداراته. وقد قال لقمان لابنه: يا بني، كذب من قال إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين، ولينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى، وإنما يطفىء الخير الشر كما يطفىء الماء النار.
وأما إذا كان هذا العدو لئيم الطبع خبيث الأصل فمثل هذا لا يستقبح الشر، ولا يكف عن المكروه فهذا حاله أطم وضرره أعم ولا سلامة من مثله إلا بالبعد عنه والإنقباض، ولا خلاص منه إلا بالصفح والإعراض لأنه كالسبع الضاري في سوارح الغنم وكالنار بطبع لا يزول، وجوهر لا يتغير.
قال الله سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى*قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى*قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى*فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:43-47].
قال ابن كثير: هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والإستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
المصدر: موقع إسلام ويب.